مساحة إعلانية 728×90

شرح و تفسير و تعريف سورة الذريات:كتاب في ظلال القرأن لسيد قطب



سورة الذاريات



وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4)
تقديم لسورة الذاريات
هذه السورة ذات جو خاص . فهي تبدأ بذكر قوى أربعة . . من أمر الله . . في لفظ مبهم الدلالة , يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر . يقسم الله - تعالى - على أمر: والذاريات ذروا , فالحاملات وقرا , فالجاريات يسرا , فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . .
والذاريات . والحاملات . والجاريات . والمقسمات . . مدلولاتها ليست متعارفة , وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار , كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل . ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة .
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء:(والسماء ذات الحبك). . يقسم بها الله تعالى . على أمر:(إنكم لفي قول مختلف). . لا استقرار له ولا تناسق فيه , قائم على التخرصات والظنون , لا على العلم واليقين . .
هذه السورة:بافتتاحها على هذا النحو , ثم بسياقها كله , تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله . . ربط القلب البشري بالسماء ; وتعليقه بغيب الله المكنون ; وتخليصه من أوهاق الأرض , وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله , والانطلاق إليه جملة , والفرار إليه كلية , استجابة لقوله في السورة: (ففروا إلى الله). . وتحقيقا لإرادته في عباده:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). .
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره , وتطمين النفس من جهته , وتعليق القلب بالسماء في شأنه , لا بالأرض وأسبابها القريبة . وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها . إما مباشرة كقوله تعالى:(وفي السماء رزقكم وما توعدون). .(إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). . وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال:(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). . ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل - أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة - بعجل سمين , يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه , وبمجرد إلقاء السلام عليه , وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة !
فتخليص القلب من أوهاق الأرض , وإطلاقه من إسار الرزق , وتعليقه بالسماء , ترف أشواقه حولها , ويتطلع إلى خالقها في علاه , بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق , ويعوقه عن الفرار إلى الله . هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها . ومن ثم كان هذا الاقتتاح , وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها , وكان القسم بعده بالسماء , وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا . .
وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة:(إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). . فهي صورة التطلع إلى الله , والتجرد له , والقيام في عبادته بالليل , والتوجه إليه في الأسحار . مع إرخاص المال , والتخلص من ضغطه , وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه .
وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق , لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة:(وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وفي السماء رزقكم وما توعدون). .
وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة , وتمهيده للأرض في يسر , وخلقه ما فيها من أزواج , والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون . والأرض فرشناها فنعم الماهدون .ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون . ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين). .
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة , عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس , ووظيفتهما الرئيسية الأولى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). .
فهو إيقاع واحد مطرد . ذو نغمات متعددة . ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع , وتطلق ذلك الحداء . الحداء بالقلب البشري إلى السماء !
وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط , وقصة موسى , وقصة عاد , وقصة ثمود , وقصة قوم نوح . وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال ; كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم , ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار . وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة:(إنما توعدون لصادق)والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركين:(فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون). . بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب:(كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا:ساحر أو مجنون . أتواصوا به ? بل هم قوم طاغون !). .
فالقصص في السورة - على هذا النحو - مرتبط بموضوعها الأصيل . وهو تجريد القلب لعبادة الله , وتخليصه من جميع العوائق , ووصله بالسماء . بالإيمان أولا واليقين . ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم .
الدرس الأول:1 - 6 القسم بالمخلوقات على حقيقة البعث
الذاريات ذروا , فالحاملات وقرا , فالجاريات يسرا , فالمقسمات أمرا . . إن ما توعدون لصادق , وإن الدين لواقع . .
هذه الإيقاعات القصيرة السريعة , بتلك العبارات الغامضة الدلالة , تلقي في الحس - كما تقدم - إيحاء خاصا , وتلقي ظلا معينا , يعلق القلب بأمر ذي بال , وشأن يستحق الانتباه . وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات , والحاملات , والجاريات , والمقسمات . .
قال ابن كثير في التفسير:قال شعبة بن الحجاج , عن سماك بن خالد بن عرعرة , أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة , عن أبي الطفيل , أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه صعد منبر الكوفة فقال:لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله [ ص ] إلا أنبأتكم بذلك . فقام ابن الكواء , فقال:يا أمير المؤمنين , ما معنى قوله تعالى:(والذاريات ذروا)? قال علي - رضي الله عنه:الريح . قال:(فالحاملات وقرا)? قال - رضي الله عنه -:السحاب . قال:(فالجاريات يسرا)? قال - رضي الله عنه -:السفن . قال:(فالمقسمات أمرا)? قال - رضي الله عنه -:الملائكة .
وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقد أحس عمر - رضي الله عنه - أنه يسأل عنها تعنتا وعنادا فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة:ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . . وهذه الرواية


إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها !
وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ; ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك [ كما قال ابن كثير ] .
أقسم الله - سبحانه - بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل . وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء . وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير . ثم بالملائكة المقسمات أمرا , تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته , فتفصل في الشؤون المختصة بها , وتقسم الأمور في الكون بحسبها .
والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله , يتخذها أداة لقدرته , وستارا لمشيئته , ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده . وهو يقسم بها - سبحانه - للتعظيم من شأنها , وتوجيه القلوب إليها , لتدبر ما وراءها من دلالة ; ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم . وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة ; ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي .
ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق , الذي يعني سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه , وإعفائه من أثقاله . فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه . أما الملائكة وتقسيمها للأمر , فإن الرزق أحد هذه القسم . ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى .
يقسم الله - سبحانه - بهذه الخلائق الأربع على: إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . . وقد وعد الله الناس:أنه مجازيهم بالإحسان إحسانا , ومجازيهم بالسوء سوءا . وأنه إذا أمهلهم الحساب في الأرض , فليس بمهمل حسابهم في الآخرة فالحساب لا بد منه هناك !(وإن الدين لواقع). . فالوعد صادق حتما إما هنا وإما هناك . . ومما وعدهم كذلك الرزق وكفالته لهم مبسوطا أو مقدرا - وفق مشيئته - ووعده حق في هذا كما هو حق في كل شأن .
ولا بد أن يتحقق ما وعد الله به الناس في الصورة التي يريدها , وفي الوقت الذي يريده , وما يحتاج الأمر إلى قسم منه - سبحانه - إنما يقسم بخلائقه تلك لتوجيه القلب إليها - كما تقدم - وتدبر ما وراءها من إبداع وقدرة وتدبير يوحي للقلب بأن وعد الله - باريء هذه الخلائق بهذا النظام وهذا التقدير - لا بد صادق ; وأن حسابه على الخير والشر والصلاح والفساد لا بد واقع . فإن طبيعة هذه الخلائق توحي بأن الأمر ليس عبثا ولا مصادفة ولا جزافا . . وهكذا تصبح تلك الخلائق آيات وبراهين ذات دلالة إيحائية قوية بفضل هذا القسم الذي يلفت القلب إليها لفتا , ويوجه الحس إليها توجيها . فهي طريقة من طرق الإيحاء والتربية , ومخاطبة الفطرة بلغة الكون خطابا مباشرا !
الدرس الثاني:7 - 14 القسم على إختلاف الناس في الحق وخسارة الكافرين الشاكين في البعث
والقسم الثاني كذلك . .
(والسماء ذات الحبك , إنكم لفي قول مختلف , يؤفك عنه من أفك). .
يقسم بالسماء المنسقة المحكمة التركيب . كتنسيق الزرد المتشابك المتداخل الحلقات . . وقد تكون هذه إحدى


قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
هيئات السحب في السماء حين تكون موشاة كالزرد مجعدة تجعد الماء والرمل إذا ضربته الريح . وقد يكون هذا وضعا دائما لتركيب الأفلاك ومداراتها المتشابكة المتناسقة .
يقسم بالسماء المنسقة المحبوكة على أنهم في قول مختلف , مضطرب لا قوام له ولا قرار , ولا ثبات له ولا استقرار , يصرف عنه من صرف ويبقى عليه من بقي , فلا استقرار عليه ولا توافق ولا ثبات . بل الحيرة دائمة والقلق لا يزال . وكذلك الباطل دائما أرض مرجرجة مهتزة ; وتيه لا معالم فيه ولا نور ; وهو يتأرجح ولا يفيء إلى أصل ثابت , ولا ميزان دقيق . ولا يجتمع عليه أهله إلا لينصرفوا ويتفرقوا بعد حين ; ويدب الخلاف بينهم والشقاق . .
ويتضح اضطرابهم واختلافهم وما هم فيه من الأمر المريج:حين يعرض في ظل السماء ذات الحبك المنسقة التركيب .
ثم يستطرد فيقرر أنهم يعيشون في أوهام وظنون في أمر الآخرة , لا يستندون فيها إلى حق أو يقين . فهم في قول مختلف في هذا الحق المبين . ثم يصور لهم ذلك اليوم في مشهد حي تتملاه العيون:
(قتل الخراصون . الذين هم في غمرة ساهون . يسألون:أيان يوم الدين ? يوم هم على النار يفتنون . ذوقوا فتنتكم , هذا الذي كنتم به تستعجلون). .
والخرص:الظن والتقدير الجزاف الذي لا يقوم على ميزان دقيق . والله - سبحانه - يدعوا عليهم بالقتل . فيا للهول ! ودعوة الله عليهم بالقتل قضاء بالقتل !(قتل الخراصون)ويزيد أمرهم وضوحا:(الذين هم في غمرة ساهون)فهم مغمورون بالأضاليل والأوهام لا يفيقون ولا يستيقظون . والتعبير يلقي ظلا خاصا , يصور القوم مغمورين ساهين لا يشعرون بشيء مما حولهم ولا يتبينون . كأنهم سكارى مذهولون !
ذلك أنهم لا يتبينون الأمر الواضح , الذي يراه ويوقن به كل واع غير مذهول ; فهم(يسألون:أيان يوم الدين)? يسألون هكذا , لا طلبا للعلم والمعرفة , ولكن استنكارا وتكذيبا , واستبعادا لمجيئه , يعبر عنه لفظ(أيان)المقصود !
ومن ثم يعالجهم بمشهدهم في هذا اليوم الذي يستبعدونه ويستنكرونه ; وهم يحرقون بالنار كحرق المعدن لتمييز حقيقته:(يوم هم على النار يفتنون)! ومعه التبكيت المؤلم في الموقف العصيب:(ذوقوا فتنتكم . هذا الذي كنتم به تستعجلون). .
فهذه المعالجة هي الجواب اللائق بهذا التساؤل . وهذا العنف في المشهد هو المقابل للذهول والسهوة التي يعيش فيها الخراصون . وهو مصداق دعوة الله عليهم بالقتل في أشد صوره وأعنفها:يوم هم على النار يفتنون !
الدرس الثالث:15 - 16 من صفات المتقين
وعلى الضفة الأخرى وفي الصفحة المقابلة يرتسم مشهد آخر , لفريق آخر , فريق مستيقن لا يخرص ; تقي لا يتبجح ; مستيقظ يعبد ويستغفر , ولا يقضي العمر في غمرة وذهول:
(إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). .
فهذا الفريق . فريق المتقين . الأيقاظ . الشديدي الحساسية برقابة الله لهم , ورقابتهم هم لأنفسهم . هؤلاء (في جنات وعيون). . (آخذين ما آتاهم ربهم)من فضله وإنعامه , جزاء ما أسلفوا في الحياة الدنيا من عبادة


آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)
لله كأنهم يرونه , ويقين منهم بأنه يراهم: (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين). .
ويصور إحسانهم صورة خاشعة , رفافة حساسة:
(كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون). .
فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام , المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يطعمون الكرى إلا قليلا , ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرا . يأنسون بربهم في جوف الليل فتتجافى جنوبهم عن المضاجع , ويخف بهم التطلع فلا يثقلهم المنام !
قال الحسن البصري:(كانوا قليلا من الليل ما يهجعون). . كابدوا قيام الليل , فلا ينامون من الليل إلا أقله , ونشطوا فمدوا إلى السحر , حتى كان الاستغفار بسحر .
وقال قتادة:قال الأحنف بن قيس:(كانوا قليلا من الليل ما يهجعون). . كانوا لا ينامون إلا قليلا . ثم يقول:لست من أهل هذه الآية .
قال الحسن البصري:كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة , فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا , إذ نحن قوم لا نبلغ أعمالهم . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وعرضت عملي على عمل أهل النار , فإذا قوم لا خير فيهم , مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت . فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:قال رجل من بني تميم لأبي:يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا . ذكر الله تعالى قوما فقال:(كانوا قليلا من الليل ما يهجعون). ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم ! فقال له أبي - رضي الله عنه -:طوبى لمن رقد إذا نعس , واتقى الله إذا استيقظ .
فهي حال يتطلع إليها رجال من التابعين - ذوي المكانة في الإيمان واليقين - ويجدون أنفسهم دونها . اختص بها ناس ممن اختارهم الله , ووفقهم إلى القيام بحقها . وكتبهم بها عنده من المحسنين .
وهذه حالهم مع ربهم , فأما حالهم مع الناس , وحالهم مع المال , فهو مما يليق بالمحسنين:
(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). .
فهم يجعلون نصيب السائل الذي يسأل فيعطى , ونصيب المحروم الذي يسكت ويستحيي فيحرم . يجعلون نصيب هذا وهذا حقا مفروضا في أموالهم . وهم متطوعون بفرض هذا الحق غير المحدود .
وهذه الإشارة تتناسق مع علاج السورة لموضوع الرزق والمال , لتخليص القلب من أوهاق الشح وأثقال البخل وعوائق الانشغال بالرزق . وتمهد للمقطع التالي في السورة , في الوقت الذي تكمل سمة المتقين وصورة المحسنين .
الدرس الرابع:20 - 23 من آيات الله في الأنفس والأرض وضمان الله للرزق (وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون ? وفي السماء رزقكم وما توعدون . فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون . .
وهي لفتة إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس ; وتوجيه إلى السماء في شأن الرزق المكتوب والحظ المقدور . تختم بقسم عظيم . قسم الله - سبحانه - بذاته بوصف (رب السماء والأرض اللتين ورد ذكرهما في هذا المقطع . على أن هذا القول الذي جاءهم من عنده حق يقين . .(وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون)? . .
هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته . معرض لم نستجل منه حتى اللحظة إلا القليل من بدائعه . ونحن نكشف في كل يوم جديدا منه , ونطلع منه على جديد . . ومثل هذا المعرض , معرض آخر مكنون فينا نحن . . النفس الإنسانية . . الخفية الأسرار , التي تنطوي فيها أسرار هذا الوجود كله , لا أسرار الكوكب الأرضي وحده !
وإلى هذين المعرضين الهائلين تشير الآيتان تلك الإشارة المختصرة , التي تفتح هذين المعرضين على مصاريعهما لمن يريد أن يبصر , ولمن يريد أن يستيقن , ولمن يريد أن يملأ حياته حتى تفيض بالمتعة والمسرة , وبالعبرة الحية , وبالرصيد القيم من المعرفة الحقة , التي ترفع القلوب وتضاعف الأعمار !
والنصوص القرآنية معدة للعمل في جميع الأوساط والبيئات والظروف والأحوال . قادرة على إعطاء رصيد معين لكل نفس ولكل عقل ولكل إدراك . كل بقدر ما يتقبل منها وما يطيق .
وكلما ارتقى الأنسان في المعرفة , واتسعت مداركه , وزادت معلوماته , وكثرت تجاربه , واطلع على أسرار الكون وأسرار النفس . . ارتقى نصيبه , وتضخم رصيده , وتنوع زاده الذي يتلقاه من نصوص القرآن . . هذا الكتاب الذي "لا تنفد عجائبه , ولا يخلق على كثرة الرد" كما يقول عنه النبي الذي تلقاه واستوعب أسراره , وعاش بها . يقول عن تجربة حية وجدها في نفسه فعبر عنها ذلك التعبير - صلوات الله وسلامه عليه - .
ولقد وجد الذين سمعوا هذا القرآن أول مرة من آيات الله في الأرض وآياته في النفس , نصيبهم , وتسلموا رصيدهم , وفق معارفهم وتجاربهم وإشراقات نفوسهم . ووجد كذلك كل جيل أتى بعدهم نصيبا يناسب ما تفتح له من أنواع العلوم والمعارف والتجارب . ونجد نحن نصيبنا وفق ما اتسع لنا من رقعة العلم والمعرفة والتجريب , وما تكشف لنا من أسرار لا تنفد في هذا الكون الكبير . وستجد الأجيال بعدنا نصيبها مدخرا لها من الآيات التي لم تكشف لنا بعد في الأرض والنفس . ويبقى هذان المعرضان الإلهيان الهائلان حافلين بكل عجيب وجديد إلى آخر الزمان .
هذه الأرض . هذا الكوكب المعد للحياة , المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه , على نحو يكاد يكون فريدا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل , الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة . التي يبلغ عدد المعروف منها فقط - والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون - مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم والكواكب هي توابع هذه النجوم !
ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته . ولو اختلفت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها . . لو تغير حجمها صغرا أو كبرا , لو تغير وضعها من الشمس قربا أوبعدا . لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها . لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا . لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ . لو تغير حجم القمر - تابعها - أو بعده عنها . لو تغيرت نسبة الماء واليابس فيها زيادة أو نقصا . . . لو . لو . لو . . . إلى آلاف الموافقات المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته .
أليست هذه آية أو آيات معروضة في هذا المعرض الإلهي ?
ثم . هذه الأقوات المذخورة في الأرض للأحياء التي تسكنها . تسكن سطحها , أو تسبح في أجوائها , أو تمخر ماءها , أو تختبيء في مغاورها وكهوفها , أو تختفي في مساربها وأجوافها . . هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع لتلبي حاجة هذه الأحياء التي لا تحصى , ولا تحصى أنواعغذائها أيضا . . هذه الأقوات الكامنة في جوفها , والساربة في مجاريها , والسابحة في هوائها , والنابتة على سطحها , والقادمة إليها من الشمس ومن عوالم أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول , ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة , وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى .
وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها , حيثما امتد الطرف , وحيثما تنقلت القدم . وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد:من وهاد وبطاح , ووديان وجبال ; وبحار وبحيرات , وأنهار وغدران . وقطع متجاورات , وجنات من أعناب , وزرع , ونخيل صنوان وغير صنوان . . وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير . ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد , ويمر به وهو ممرع فإذا هو مشهد آخر . ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد , ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر . وهو هو لم ينتقل باعا ولا ذراعا في المكان !
والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء . نباتا وحيوانا . وطيرا وسمكا , وزواحف وحشرات . . بله الإنسان فالقرآن يفرده بنص خاص . . هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد - فضلا على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل - وكل خليقة منها أمة ! وكل فرد منها عجيبة . كل حيوان . كل طائر . كل زاحفة . كل حشرة . كل دودة . كل نبتة:لا بل كل جناح في يرقة , وكل ورقة في زهرة , وكل قصبة في ورقة ! في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه .
ولو مضى الإنسان - بل لو مضى الأناسي جميعا - يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب , وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات , ما انتهى لهم قول ولا إشارة . والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر , واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل , طوال الرحلة على هذا الكوكب , والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة .
غير أنه لا يدرك هذه العجائب , ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع , إلا القلب العامر باليقين .(وفي الأرض آيات للموقنين). . فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك ; وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة , وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع . وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء ; لا تنطق للقلب بشيء ; ولا تتجاوب معه بشيء . وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب . لا يحسون فيه حياة , ولا يفقهون له لغة ; لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم , ولم تبث الحياة فيما حولهم ! وقد يكون منهم علماء (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا). أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم , فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان , ولا تراها إلا بنور اليقين . . وصدق الله العظيم .
ثم العجيبة الأخرى التي تدب على هذه الأرض:
(وفي أنفسكم , أفلا تبصرون ?). .
وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض . ولكنه يغفل عن قيمته , وعن أسراره الكامنة في كيانه , حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين .
إنه عجيبة في تكوينه الجسماني:في أسرار هذا الجسد . عجيبة في تكوينه الروحي:في أسرار هذه النفس . وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه . وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير . تكوين أعضائه وتوزيعها . وظائفها


وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
وطريقة أدائها لهذه الوظائف . عملية الهضم والامتصاص . عملية التنفس والاحتراق . دورة الدم في القلب والعروق . الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم . الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه . تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها , وتجاوبها الكامل الدقيق . وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب . وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب .
وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة . . إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها . هذه المعلومات والصور المختزنة . أين ? وكيف ? هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت ? وأين ? وكيف تستدعى فتجيء . . وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى . فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر . تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول .
ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه . خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص ; وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين . فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة ? وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل , فتمثله أدق تمثيل , وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب ?!
وإن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض , وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه , ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة . إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب , وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان , لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان !
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات . بل أمام النطق ذاته . نطق هذا اللسان . وتصويت تلك الحنجرة . إنها عجيبة . عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيرا . ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها . إنها خارقة . خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله .
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق , لا ينقضي منها العجب ;(وفي أنفسكم . أفلا تبصرون ?). .
وكل فرد من هذا الجنس عالم وحده . ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبدا على مدار الدهور . ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعا لا في شكله وملامحه , ولا في عقله ومداركه , ولا في روحه ومشاعره . ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره . ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين , كل فرد نموذج خاص , وطبعة فريدة لا تتكرر . يمر من خلالها الوجود كله في صورة كذلك لا تتكرر . كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور !
وكثير من عجائب الجنس البشري مكشوفة للبصر , تراه العيون:(وفي أنفسكم . أفلا تبصرون ?):وما تراه العيون من عجائبه يشير إلى المغيب المكنون .
وهذه العجائب لا يحصرها كتاب . فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات . والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم , والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها . ولكنه يلمس القلب هذه اللمسة ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر . وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبر , وفي متاع رفيع بتأمل هذا الخلق العجيب , الكامن في ذات نفسه وهو عنه غافل مشغول .
وإنها للحظات ممتعة حقا تلك التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم وعاداتهم , بعين


وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
العابد السائح الذي يجول في متحف من إبداع أحسن الخالقين . فكيف بمن يقضي عمره كله في هذا المتاع الرفيع ?
إن القرآن بمثل هذه اللمسة يخلق الإنسان خلقا جديدا , بحس جديد ; ويمتعه بحياة جديدة , ويهبه متاعا لا نظير له في كل ما يتصوره في الأرض من متاع .
وعلى هذا النحو الرفيع من التأمل والإدراك يريد القرآن الناس . والإيمان هو الذي يمنح القلب البشري هذا الزاد , وهو الذي يهيء له هذا المتاع العلوي . وهو بعد في الأرض في عالم الطين !
وبعد فقد كانت اللفتة الأولى إلى معرض الأرض ; وكانت اللفتة الثانية إلى معرض النفس . ثم تلتهما في السورة لفتة إلى معرض الغيب العلوي المطوي , حيث الرزق المقسوم والحظ المرسوم:
(وفي السماء رزقكم وما توعدون). .
وهي لفتة عجيبة . فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض , حيث يكد فيها الإنسان ويجهد , وينتظر من ورائها الرزق والنصيب . فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلى السماء . إلى الغيب . إلى الله . ليتطلع هناك إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم . أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة , فهي آيات للموقنين . آيات ترد القلب إلى الله ليتطلع إلى الرزق من فضله ; ويتخلص من أثقال الأرض وأوهاق الحرص , والأسباب الظاهرة للرزق , فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب .
والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة على حقيقتها ; ويفهمها على وضعها ; ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها . فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها . إنما المقصود هو ألا يعلق نفسه بها , وألا يغفل عن الله في عمارتها . ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء . وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه , فرزقه مقدر في السماء , وما وعده الله لا بد أن يكون .
بذلك ينطلق قلبه من إسار الأسباب الظاهرة في الأرض ; بل يرف بأجنحة من هذه الأسباب إلى ملكوت السماوات . حين يرى في الأسباب آيات تدله على خالق الأسباب ويعيش موصولا قلبه بالسماء , وقدماه ثابتتان على الأرض . فهكذا يريد الله لهذا الإنسان . هكذا يريد الله لذلك المخلوق الذي جبله من الطين ونفخ فيه من روحه فإذا هو مفضل على كثير من العالمين .
والإيمان هو الوسيلة لتحقيق ذلك الوضع الذي يكون فيه الإنسان في أفضل حالاته . لأنه يكون حينئذ في الحالة التي أنشأه الله لها . فطرة الله التي فطر الناس عليها . قبل أن يتناولها الفساد والانحراف . .
وبعد هذه اللمسات الثلاث في الأرض والنفس والسماء . يقسم الله سبحانه بذاته العلية على صدق هذا الحديث كله:
فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون . .
وكونهم ينطقون , حقيقة بين أيديهم , لا يجادلون فيها ولا يمارون , ولا يرتابون فيها ولا يخرصون . . وكذلك هذا الحديث كله . والله أصدق القائلين .
وقد روى الأصمعي نادرة ذكرها الزمخشري في الكشاف , ونسوقها نحن لطرافتها - في تحفظ من جانب الرواية ! - قال:
[ أقبلت من جامع البصرة , فطلع أعرابي على قعود له . فقال:ممن الرجل ? قلت:من بني أصمع . قال:من أين أقبلت ? قلت:من موضع يتلى فيه كلام الرحمن . فقال:اتل علي . فتلوت:(والذاريات). . فلما بلغت قوله تعالى:(وفي السماء رزقكم وما توعدون)قال:حسبك ! فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ; وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ! فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف ; فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق . فالتفت , فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر . فسلم علي واستقرأ السورة . فلما بلغت الآية صاح وقال:قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا , ثم قال:وهل غير هذا ? فقرأت: (فورب السماء والأرض إنه لحق). . فصاح قال:يا سبحان الله . من الذي أغضب الجليل حتى حلف ? لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين ! قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه ] . .
وهي نادرة تصح أو لا تصح . ولكنها تذكرنا بجلال هذا القسم من الله سبحانه . القسم بذاته . بصفته:رب السماء والأرض . مما يزيد الحقيقة المقسم عليها جلالا . وهي حقيقة بلا قسم ولا يمين .
الدرس الخامس:24 - 37 لقطات من قصة إبراهيم ولوط
ذلك كان القطاع الأول في السورة . أما القطاع الثاني فيشمل تلك الإشارات إلى قصص إبراهيم , ولوط , وموسى , وعاد قوم هود , وثمود قوم صالح , وقوم نوح . . وهو مرتبط بما قبله , ومرتبط كذلك بما بعده في سياق السورة .
(هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ? إذ دخلوا عليه , فقالوا:سلاما . قال:سلام قوم منكرون . فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين . فقربه إليهم قال:ألا تأكلون ; فأوجس منهم خيفة . قالوا:لا تخف , وبشروه بغلام عليم . فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها , وقالت:عجوز عقيم . قالوا:كذلك قال ربك , إنه هو الحكيم العليم . قال:فما خطبكم أيها المرسلون ? قالوا:إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين , لنرسل عليهم حجارة من طين . مسومة عند ربك للمسرفين . فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين . فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين . وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم). .
إنها آية أو آيات في تاريخ الرسالات . كتلك الآيات التي أشار إليها في الأرض وفي الأنفس . وإنه وعد أو وعود تتحقق من تلك الوعود التي أشار إلى تحققها في القطاع السابق .
ويبدأ الحديث عن إبراهيم بالسؤال:(هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ?). . تنويها بهذا الحديث , وتهيئة للأذهان . مع وصف ضيف إبراهيم بالمكرمين ; إما لأنهم كذلك عند الله ; وإما إشارة إلى إكرام إبراهيم لهم كما ورد في القصة .
ويبدو كرم إبراهيم وسخاؤه وإرخاصه للمال واضحا . فما يكاد ضيفه يدخلون عليه ويقولون:سلاما . ويرد عليهم السلام , وهو ينكرهم ولا يعرفهم . ما يكاد يتلقى السلام ويرده حتى يذهب إلى أهله - أي زوجه - مسارعا ليهيئ لهم الطعام . ويجيء به طعاما وفيرا يكفي عشرات:(فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين). . وهم كانوا ثلاثة فيما يقال . . تكفيهم كتف من هذا العجل السمين !
(فقربه إليهم . قال:ألا تأكلون ?). . وجاء هذا السؤال بعد أن رأى أيديهم لا تصل إليه , ولا يبدو عليهم أنهم سيأكلون طعامه .
(فأوجس منهم خيفة). . إما لأن الطارئ الذي لا يأكل طعام مضيفه ينبئ عن نية شر وخيانة . وإما لأنه لمح أن فيهم شيئا غريبا ! عندئذ كشفوا له عن حقيقتهم أو طمأنوه وبشروه: (قالوا:لا تخف . وبشروه بغلام عليم). . وهي البشارة بإسحاق من زوجه العقيم .


قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38)
(فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها . وقالت:عجوز عقيم). . وقد سمعت البشرى , فبغتت وفوجئت , فندت منها صيحة الدهش , وعلى عادة النساء ضربت خديها بكفيها . وقالت:عجوز عقيم . تنبئ عن دهشتها لهذه البشرى وهي عجوز . وقد كانت من الأصل عقيما . وقد أخذتها المفاجأة العنيفة التي لم تكن تتوقعها أبدا , فنسيت أن البشرى تحملها الملائكة ! عندئذ ردها المرسلون إلى الحقيقة الأولى . حقيقة القدرة التي لا يقيدها شيء , والتي تدبر كل أمر بحكمة وعلم:
(قالوا:كذلك قال ربك , إنه هو الحكيم العليم). .
وكل شيء يكون إذا قيل له:كن . وقد قال الله . فماذا بعد قوله ? إن الألفة والعادة تقيدان الإدراك البشري , وتحدان من تصوراته . فيدهش إذ يرى ما يخالف المألوف له ; ويعجب كيف يكون ; وقد يتبجح فينكر أن يكون ! والمشيئة المطلقة ماضية في طريقها لا تتقيد بمألوف البشر الصغير المحدود ; تبدع ما تشاء , بغير ما حدود أو قيود !
عند ذلك راح إبراهيم يسأل وقد عرف حقيقة ضيفه عن شأنهم الذي أرسلوا فيه:(قال:فما خطبكم أيها المرسلون ?). .(قالوا:إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين). . هم قوم لوط . كما ورد في سور أخرى .(لنرسل عليهم حجارة من طين , مسومة عند ربك للمسرفين). .
وهذه الحجارة الطينية المعلمة أو المعدة المجهزة عند الله للمسرفين المتجاوزين الحق - وقوم لوط كانوا مسرفين في تجاوزهم للفطرة والحق والدين - لا يمتنع أن تكون حجارة بركان ثائر يقذف بالحمم الطيني من جوف الأرض . فهي (عند ربك)بهذا الإعتبار مسلطة - وفق إرادته ونواميسه - على من يريد من المسرفين . مقدرة بزمانها ومكانها وفق علمه وتدبيره القديم . وأن يتولى إرسالها - في إطار إرادته ونواميسه - ملائكته . وهل ندري نحن حقيقة ملائكته ? وهل ندري حقيقة علاقتهم بهذا الكون ومن فيه وما فيه ? وهل ندري حقيقة القوى الكونية التي نسميها من عندنا أسماء بحسب ظواهرها التي تتكشف لنا بين الحين والحين ? وما لنا نعترض على خبر الله لنا أنه سلط بعض هذه القوى في وقت ما , لترسل بعض هذه القوى في صورة ما , على قوم ما , في أرض ما , ما لنا نعترض على خبر الله لنا , ونحن ما نزال كل ذخيرتنا من المعرفة فروض ونظريات وتأويلات لظواهر تلك القوى . أما حقيقتها فهي عنا بعيدة ?! فلتكن حجارة بركانية أو لتكن حجارة أخرى فهذه كتلك في يد الله , ومن صنعه , وسرها غيب عنده يكشفه حين يشاء !
(فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين). . لإنجائهم وحمايتهم . . فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين :هم بيت النبي لوط . كما ورد في مواضع أخرى . فكانوا هم الناجين إلا امرأته كانت من المهلكين .
(وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم). . فالذين يخافون هم الذين يرون الآية ويدركونها وينتفعون بها . أما الآخرون فمطموسون لا يرون آيات الله . لا في الأرض ولا في أنفسهم ولا في أحداث التاريخ !
الدرس السادس:38 - 40 إشارة إلى قصة موسى
وآية أخرى في قصة موسى , يشير إليها إشارة سريعة في معرض الآيات في تاريخ المرسلين:
(وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين . فتولى بركنه وقال:ساحر أو مجنون . فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم , وهو مليم). .
والسلطان المبين الذي أرسل الله به موسى إلى فرعون , هو الحجة القوية , والبرهان القاطع , وهو الهيبة الجليلة


فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (46)
التي خلعها عليه . وهو معهما يسمع ويرى . ولكن فرعون تولى بركنه , وازور بجانبه عن الحق الواضح والبرهان القاطع ; وقال عن موسى النبي الذي كشف له عن آيات الله الخوارق: (ساحر أو مجنون). . مما يقطع بأن الآيات والخوارق لا تهدي قلبا لم يتأهب للهدى ; ولا تقطع لسانا يصر على الباطل ويفتري .
ولا يطيل السياق هنا في عرض تفصيلات القصة ; فيمضي إلى نهايتها التي تتجلى فيها الآية الباقية المذكورة في التاريخ:(فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم). . أي مستحقا للوم على ما كان منه من طغيان ومن تكذيب .
وواضح في التعبير فعل الله المباشر في أخذه هو وقومه , وفي نبذهم في اليم . وهو الإيقاع المقصود لإبراز آية الله في موسى . في معرض آياته في الأرض والأنفس وتاريخ الرسالات والمرسلين .
الدرس السابع:41 - 42 إشارة إلى دمار عاد
وآية أخرى في عاد:
(وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم . ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم). .
وسميت الريح التي أرسلت على عاد عقيما لأنها لم تكن تحمل ماء ولا حياة كما توقعوا . إنما تحمل الموت والدمار . وتترك كل شيء تأتي عليه كالميت الذي رم وتحول إلى فتات !
والريح قوة من قوى هذا الكون . وجند من جند الله . وما يعلم جنود ربك إلا هو . يرسلها - في إطار مشيئته وناموسه - في صورة ما من صورها , في الوقت المقدر , على من يريد , بالهلاك والدمار , أو بالحيا والحياة . ولا مكان في مثل هذه المواضع للاعتراض السطحي الساذج , بالقول بأن الريح تجري وفق نظام كوني ; وتهب هنا أو هناك تبعا لعوامل طبيعية . فالذي يجريها وفق ذلك النظام وتبع هذه العوامل هو الذي يسلطها على من يشاء عندما يشاء وفق تقديره وتدبيره . وهو قادر على أن يسلطها كما يريد في إطار النظام الذي قدره والعوامل التي جعلها . ولا مخالفة ولا شبهة ولا اعتراض !
الدرس الثامن:43 - 45 إشارة إلى هلاك ثمود
وآية ثالثة في ثمود:
(وفي ثمود إذ قيل لهم:تمتعوا حتى حين . فعتوا عن أمر ربهم , فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون . فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين). .
والإشارة في قوله: (إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين). . قد تعني إمهالهم ثلاثة أيام بعد قتل الناقة . وهو ما ورد في الآية: (فقال:تمتعوا في داركم ثلاثة أيام). . وقد تعني ما قدر لهم من المتاع منذ الرسالة إلى أن قتلوا الناقة , وعتوا عن أمر ربهم , فحق عليهم الهلاك .
وما يقال في الحجارة التي أرسلت على قوم لوط , وفي الريح التي أرسلت على عاد , يقال في الصاعقة التي أرسلت على ثمود . فكلها قوى كونية مدبرة بأمر الله , مسخرة بمشيئته وبنواميسه . يسلطها على من يشاء في إطار تلك النواميس . فتؤدي دورها الذي يكلفها الله . كأي جند من جند الله .
الدرس التاسع:46 إشارة إلى قوم نوح
وآية رابعة في قوم نوح:
(وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين). .


وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
وهي إشارة سريعة تلمس القصة لمسة واحدة بدون إيضاح . كأنما ليقال:واذكر قوم نوح . وقد وردت(قوم)منصوبة وبدون لفظ [ في ] بتقدير كلمة [ اذكر ] قبلها . وتلتها (والسماء بنيناها . .)معطوفة عليها . . وهذه آية كونية , وتلك آية تاريخية . يربطهما السياق معا , ويربط بهما هذا القطاع بالقطاع الثالث في السورة . .
الدرس العاشر:47 خلق الله للسماوات والأرض واستحقاقه العبادة
(والسماء بنيناها بأيد , وإنا لموسعون , والأرض فرشناها فنعم الماهدون , ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون . ففروا إلى الله , إني لكم منه نذير مبين . ولا تجعلوا مع الله إلها آخر , إني لكم منه نذير مبين). .
إنها عودة إلى المعرض الكوني الذي افتتحت به السورة , في صورة من صوره الكثيرة التي يجلوها القرآن للقلوب . واستطراد في الإشارة إلى آيات الله هنا وهناك , يصل آية نوح بآية السماء وآية الأرض وآية الخلائق . ثم يخلص به إلى ذلك الهتاف بالبشر ليفروا إلى الله موحدين متجردين .
(والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون). .
والأيد:القوة . والقوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك المتناسق . بأي مدلول من مدلولات كلمة السماء . سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب . أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة وتحوي مئات الملايين من النجوم . أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تتناثر فيه النجوم والكواكب . . أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء .
والسعة كذلك ظاهرة فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة والتي تعد بالملايين , لا تعدو أن تكون ذرات متناثرة في هذا الفضاء الرحيب .
ولعل في الإشارة إلى السعة إيحاء آخر إلى مخازن الأرزاق التي قال من قبل:إنها في السماء ولو أن السماء هناك مجرد رمز إلى ما عند الله . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا معينة , يبدو أنها مقصودة في التعبير , لخطاب المشاعر البشرية خطابا موحيا .
ومثلها الإشارة الأخرى إلى الأرض الممهودة المفروشة:
(والأرض فرشناها فنعم الماهدون). .
فقد أعد الله هذه الأرض لتكون مهدا للحياة كما أسلفنا . والفرش يوحي باليسر والراحة و العناية . وقد هيئت الأرض لتكون محضنا ميسرا ممهدا , كل شيء فيه مقدر بدقة لتيسير الحياة وكفالتها: (فنعم الماهدون). .
(ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). .
وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض - وربما في هذا الكون . إذ أن التعبير لا يخصص الأرض - قاعدة الزوجية في الخلق . وهي ظاهرة في الأحياء . ولكن كلمة(شيء)تشمل غير الأحياء أيضا . والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية .
وحين نتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا . وأن فكرة عموم الزوجية - حتى في الأحياء - لم تكن معروفة حينذاك . فضلا على عموم الزوجية في كل شيء . . حين نتذكر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم . . وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير !
كما أن هذا النص يجعلنا نرجح أن البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة . وهي تكاد تقرر أن بناء الكون كله يرجع إلى الذرة . وأن الذرة مؤلفة من زوج من الكهرباء:موجب وسالب ! فقد


فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النص العجيب . .
وفي ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة الهائلة المدى:في أجواز السماء , وفي آماد الأرض , وفي أعماق الخلائق . يهتف بالبشر ليفروا إلى خالق السماء والأرض والخلائق , متجردين من كل ما يثقل أرواحهم ويقيدها ; موحدين الله الذي خلق هذا الكون وحده بلا شريك .
(ففروا إلى الله , إني لكم منه نذير مبين . ولا تجعلوا مع الله إلها آخر , إني لكم منه نذير مبين). .
والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقا . وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق , التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض , وتثقلها عن الانطلاق , وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال . وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود . ومن ثم يجيء الهتاف قويا للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود ! الفرار إلى الله وحده منزها عن كل شريك . وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر: (إني لكم منه نذير مبين). . وتكرار هذا التنبيه في آيتين متجاورتين , زيادة في التنبيه والتحذير !
الدرس الحادي عشر:52 - 55 وحدة موقف الكفار الطغاة من الرسل
وكأنما كانت هذه الإشارة إلى آية السماء وآية الأرض وآية الخليقة استطرادا مع آيات الرسالات والرسل . فلما انتهت جاء التعقيب على قصص الرسل التي سلفت في السياق:
(كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا:ساحر أو مجنون . أتواصوا به ? بل هم قوم طاغون . فتول عنهم فما أنت بملوم . وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). .
فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين ; وهو استقبال واحد للحق وللرسل يستقبلهم به المنحرفون:(كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا:ساحر أو مجنون). . كما يقول هؤلاء المشركون ! كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون ! وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين !
والنتيجة الطبيعية التي تترتب على هذا الموقف المكرور , الذي كأنما تواصى به الطاغون على مدار القرون , ألا يحفل الرسول [ ص ] تكذيب المشركين . فهو غير ملوم على ضلالهم , ولا مقصر في هدايتهم:(فتول عنهم فما أنت بملوم). . إنما هو مذكر , فعليه أن يذكر , وأن يمضي في التذكير , مهما أعرض المعرضون وكذب المكذبون:(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). . ولا تنفع غيرهم من الجاحدين . والتذكير هو وظيفة الرسل . والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة , والأمر فيهما إلى الله وحده . الذي خلق الناس لأمر يريده .
الدرس الثاني عشر:56 - 58 وظيفة الإنس والجن هي العبادة
هنا يجيء الإيقاع الأخير في السورة . ويتضح معنى الفرار إلى الله , والتخلص من الأوهاق والأثقال , لأداء الوظيفة التي خلق الله العباد لها , ومنحهم وجودهم ليؤدوها:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). .
وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة , من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشرفي الأرض بدون إدراكها واستيقانها . سواء كانت حياة فرد أم جماعة . أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها .
وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي , تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة , التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة .
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس . تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ; ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده ; وأصبح بلا وظيفة , وباتت حياته فارغة من القصد , خاوية من معناها الأصيل , الذي تستمد منه قيمتها الأولى . وقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود , وانتهى إلى الضياع المطلق , الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود , الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء .
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود . هي العبادة لله . أو هي العبودية لله . . أن يكون هناك عبد ورب . عبد يعبد , ورب يعبد . وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار .
ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة , ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر . فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر ; والله لا يكلفهم هذا . وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم . وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن ; ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان . نعرفها من القرآن من قول الله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة). . فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني . وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض , والتعرف إلى قواها وطاقاتها , وذخائرها ومكنوناتها , وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها . كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام .
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى , أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ; وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا . وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:
الأول:هو استقرار معنى العبودية لله في النفس . أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا . عبدا يعبد , وربا يعبد . وأن ليس وراء ذلك شيء ; وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ; وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني:هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير , وكل حركة في الجوارح , وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة , والتجرد من كل شعور آخر ; ومن كل معنى غير معنى التعبد لله .
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ; ويصبح العمل كالشعائر , والشعائر كعمارة الأرض , وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله , والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله . . كلها عبادة ; وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ; وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعرا أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى , جاء لينهض بها فترة , طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها , ولا غاية له من ورائها , إلا الطاعة , وجزاؤها الذي يجده في نفسهمن طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله , ومن أنس برضى الله عنه , ورعايته له . ثم يجده في الآخرة تكريما ونعيما وفضلا عظيما .
وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقا . يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة . ويكون قد تحرر بهذا الفرار . تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال . وخلص لله , واستقر في الوضع الكوني الأصيل:عبدا لله . خلقه الله لعبادته . وقام بما خلق له . وحقق غاية وجوده . فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض , وينهض بتكاليفها , ويحقق أقصى ثمراتها ; وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها ; خالص القلب من جواذبها ومغرياتها . ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها . ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها , ثم الفرار إلى الله منها !
ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها . فلتكن النتائج ما تكون . فالإنسان غير معلق بهذه النتائج . إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال ; ولأن جزاءه ليس في نتائجها , إنما جزاؤه في العبادة التي أداها . .
ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيرا كاملا تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال . فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها . ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته . ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك . فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه , وليست من شأنه . إنما هو قدر الله ومشيئته . وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته .
ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد ; وشعر أنه أخذ نصيبه , وضمن جزاءه , بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد , فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة . فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف . ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض , وثمرات هذا النشاط . فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته .
والقرآن يغذي هذا الإحساس ويقويه . بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهم الرزق ومن شح النفس . فالرزق في ذاته مكفول . تكفل به الله تعالى لعباده . وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه - سبحانه - أو يرزقوه . حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه , والقيام بحق المحرومين فيه:
(ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). .
وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هوالحرص على تحصيل الرزق . بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة , الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة . ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد , طليقا من التعلق بنتائج الجهد . . وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصوير الكريم .
وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها , فذلك لأنها لم تعش - كما عاش جيل المسلمين الأول - في ظلال هذا القرآن . ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم .
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق . أفق العبادة . أو أفق العبودية . ويستقر عليه , فإن نفسه تأنف حتما من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة . ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا . فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم . ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
الغايات , إنما يعني نفسه بأداء الواجبات , تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء . أما الغايات فموكولة لله , يأتي بها وفق قدره الذي يريده . ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله , وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله .
ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير , وطمأنينة النفس , وصلاح البال , في جميع الأحوال . سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها . تحققت كما قدرها أم على عكس ما قدرها . فهو قد أنهى عمله , وضمن جزاءه , عند تحقق معنى العبادة . واستراح . وما يقع بعد ذلك خارج عن حدود وظيفته . . وقد علم هو أنه عبد , فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد . وعلم أن الله رب , فلم يعد يتقحم فيما هو من شؤون الرب . واستقرت مشاعره عند هذا الحد , ورضي الله عنه , ورضي هو عن الله .
وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة , التي تقررها آية واحدة قصيرة:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). . وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عندما تستقر حقا في الضمير . . .
الدرس الثالث عشر:59 - 60 إنذار الكفار وتهديدهم
وفي ضوء هذه الحقيقة الكبيرة ينذر الذين ظلموا فلم يؤمنوا ; واستعجلوا وعد الله , وكذبوا . وتختم السورة بهذا الإنذار الأخير:
فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم . فلا يستعجلون . فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون . .

ليست هناك تعليقات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.